
تفرّق الأصدقاء، وغاب السؤال، ولم يبقَ حولي إلا صدى الذكريات وصوت الوحدة. هكذا بدأ الفنان الكبير عماد حمدي سطور مذكراته الأخيرة، وهو يستعيد ما تبقّى من حياة أنهكها المرض، بعد أن خفت بريق الشهرة وأثقلته قسوة السنين.
يكتب “فتى الشاشة الهادئ” بصوتٍ مبحوح من الألم: “من سيتحمل مريض القلب الذي فقد شبابه وحيويته وضحكاته؟ من سيحتمل إنسانًا يطاردُه الاكتئاب النفسي وقد أصبح عاجزًا عن الابتسام؟”
يقول إنه لم يعد يملك شيئًا، حتى الشقة المتواضعة التي يسكن فيها باتت مصدرًا للمتاعب. فقد ترك طليقته نادية الجندي شقة فاخرة في الزمالك تتكون من تسع حجرات، ولم يبخل عليها بشيء، ثم استثمر كل ما تبقى من ماله في فيلم أنتجته هي لتكون بطلته. وبعدها خرج من بيته لا يملك سوى حقيبة بها بدلتان وبعض الذكريات.
ورغم أنه وهبها الكثير، فإنها – كما يروي – لم تتركه يعيش بقية أيامه في هدوء، بل كانت تزوره بين الحين والآخر لتتشاجر معه، ملوّحة بأنها قادرة على انتزاع الشقة التي يسكنها مع ابنه نادر من زوجته الأولى فتحية شريف. ويقول في مذكراته متسائلًا بحسرة: “ألا يكفيها ما أخذت؟”
حاول عماد حمدي، كما كتب، أن يجمع بين ابنيه نادر وهشام – ابن نادية الجندي – في أجواء من المودة والسلام، لكن جهوده باءت بالفشل. وكان يخاطب ابنه نادر قائلاً: “يا بني، حاول أن تتعلم مما حدث لي، فهذه عبرة، الكل ابتعد عني، وغاب الأصدقاء الذين كانوا يومًا يملأون حياتي ضجيجًا ودفئًا.”
ثم يمضي في اعتراف مؤلم: “لو كان إخوتي الثلاثة على قيد الحياة، لما شعرت بهذه الوحدة القاتلة. أما أنت يا نادر، فأعرف أنك لا تستطيع البقاء بجانبي طوال الوقت، فلك حياتك وعملك كمصور في وكالة أنباء الشرق الأوسط. لا تهمل مستقبلك من أجلي.”
يصف الفنان الكبير ما وصل إليه من عجز قائلاً: “كنت في زمن الصحة أملأ البيت ضحكًا وحياة، أدخل المطبخ وأتفنن في إعداد الطعام، أما اليوم فلا أستطيع الوصول إلى باب المطبخ إلا بصعوبة، وقد فقدت الرغبة في الأكل، لأن من يفقد الرغبة في الحياة كيف يشتهي الطعام؟”
في المستشفى العسكري بالمعادي، حيث نُقل بعد إصابته بجلطة في المخ، وجد إلى جواره الفنانة تحية كاريوكا، التي كانت تتلقى علاجًا من السمنة الزائدة، لكنها لم تنس زميلها القديم، فكانت تزوره وتطعمه بيديها وتتابع حالته ساعة بساعة. يقول عنها: “تحية كانت دائمًا مثال الشهامة، فالوفاء جزء من طبيعتها.”
بعد خروجه من المستشفى، عاد إلى شقته البسيطة منتظرًا رنين الهاتف الذي ندر أن يسمعه. لم تعد المكالمات تنهال كما كانت في أيام المجد، حين كان صوته مطلوبًا في كل بيت، وحين كان “التليفون” لا يتوقف عن الرنين، يحمل له التقدير والدعوات والمجاملات.
لكن القدر أعاد إليه شيئًا من الدفء القديم حين جاءت زوجته الأولى فتحية شريف لتقيم بجانبه في أيامه الأخيرة. يقول عنها: “لم تأتِ لتسأل فقط، بل لتبقى. كانت مريضة بالقلب، ومع ذلك قالت لي: (إزاي أسيبك لوحدك يا عماد؟ من هنا ورايح إحنا جنبك على طول).
يصف تلك اللحظة بأنها كانت من أصدق لحظات حياته، إذ عاد يشعر أن حوله من يمد له كوب الماء، ويعاونه على الوقوف، ويخفف عنه آلامه.
وفي يوم عيد ميلاده السبعين، حدث ما لم يتوقعه. اقتحم بيته نحو أربعين صديقًا وصديقة، يحملون “تورتة” ضخمة وخروفًا مشويًا وأنواعًا من الأطعمة، حتى الملاعق والسكاكين أحضروها معهم. يقول: “أشفقت على قلبي من شدة المفاجأة، لكني لم أستطع أن أخفي سعادتي. جلس أغلبهم على الأرض لأن المقاعد لم تكفِ، والتفوا حولي فهربت الكآبة من البيت.”
مرت الليلة كحلم، ثم عاد الصمت إلى جدران الشقة من جديد، وعادت الوحدة لتملأ الفراغ. ورغم وجود ابنه نادر، وزوجته الأولى، وحفيدته الصغيرة مريم، فإن الذكريات كانت أقوى من أي أنس. كان يتذكر أصدقاءه القدامى الذين شاركوه المجد والثراء، لكنه لم يعد يسمع أصواتهم أو يرى وجوههم.
كتب في نهاية مذكراته: “كنت أسأل نفسي: هل أعاتبهم؟ ثم أجيب: لا. سأبحث لهم عن الأعذار، حتى لو لم تكن مبرراتهم كافية. لأن أكثر ما يعذبني هو الجفاء ونكران الجميل.”
وفي ختام كلماته، كتب عماد حمدي المشهد الأخير من حياته كأنه يكتب سيناريو فيلمه الأخير:
“كما في كل فيلم تأتي كلمة النهاية، وفي كل مسرحية يُسدل الستار، وأنا الآن أنتظر نهاية الرحلة الطويلة. لست نادمًا على طريقٍ سلكته ولا قرارٍ اتخذته. لم أترك عمارات ولا حسابات بنكية، لكني أملك أكبر رصيد في حياتي: 450 فيلمًا هي تركتي ورصيدي الحقيقي. فاعذرني يا نادر، واعذريني يا مريم، فهذه أفلامي هي إرثي الوحيد، صنعتها بجهدي وعرقي ومعاناتي، وأعتز بها كما يعتز الأب بأبنائه.”




