
في تحول لافت يعكس إعادة صياغة شاملة لمفهوم الأمن الأوروبي، لم يعد النقاش الدائر داخل أروقة بروكسل محصورًا في حدود القارة، بل اتسع ليشمل شركاء من خارج الفضاء الجغرافي التقليدي، وعلى رأسهم اليابان، في خطوة تؤشر إلى إدراك متنامٍ بأن التهديدات الأمنية باتت مترابطة وعابرة للحدود.
ويأتي ذلك في إطار برنامج SAFE العسكري، الذي تبلغ قيمته 150 مليار يورو، والذي لا يستهدف مجرد شراء أسلحة أو سد فجوات آنية، بل يطمح إلى إعادة بناء منظومة دفاعية أوروبية متكاملة، تقوم على الإنتاج الصناعي الداخلي، وتعزيز الاستقلال الاستراتيجي، وتوسيع التحالفات متعددة الأطراف في عالم يتسم بتزايد الاضطرابات وتراجع اليقين بشأن استمرار المظلة الأمريكية التقليدية.
البرنامج، الذي أُقر في السابع والعشرين من مايو الماضي، يمثل تتويجًا لنقاشات طويلة داخل الاتحاد الأوروبي حول ضرورة الانتقال من منطق الدفاع القائم على الاستيراد والاعتماد الخارجي إلى نموذج ردع صناعي–عسكري قادر على الصمود أمام الأزمات الممتدة.
وفي هذا السياق، يكتسب اهتمام اليابان بالانضمام إلى منظومة SAFE دلالة استراتيجية خاصة، إذ يعكس تقاطعًا واضحًا في التحديات التي تواجه الطرفين، سواء في أوروبا التي تعاني من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية واستنزاف المخزونات العسكرية، أو في شرق آسيا حيث تتصاعد التوترات بفعل تنامي النفوذ العسكري الصيني واستمرار التهديدات الكورية الشمالية.
الخبير الأمني الأوروبي جون برنارد بيناتل يرى أن SAFE يمثل تحولًا جذريًا في الفلسفة الدفاعية الأوروبية، مؤكدًا أن الاتحاد الأوروبي لم يعد يفكر فقط في حماية حدوده، بل في بناء قدرة ردع متكاملة صناعيًا وعسكريًا، قادرة على العمل ضمن شبكة تحالفات أوسع.
ويشير إلى أن انفتاح البرنامج على اليابان يعكس وعيًا مشتركًا بأن الأمن لم يعد مسألة إقليمية، بل معادلة كونية تتشابك فيها سلاسل التسليح والمصالح الاستراتيجية. كما يؤكد أن نجاح SAFE لن يُقاس بحجم التمويل وحده، بل بمدى توافر الإرادة السياسية لدى الدول الأعضاء للالتزام بمفهوم السيادة الدفاعية المشتركة.
من الناحية العملية، يوفر البرنامج آلية تمويل غير مسبوقة، من خلال قروض طويلة الأمد قد تمتد إلى 45 عامًا، مع فترة سماح تصل إلى عشر سنوات، مستفيدًا من التصنيف الائتماني المرتفع للمفوضية الأوروبية.
هذه الآلية تخفف العبء عن الميزانيات الوطنية وتمنح الحكومات الأوروبية مساحة أوسع لتسريع التسلح والاستجابة للتهديدات المتصاعدة. ويعتمد SAFE على مبدأ “الأفضلية الأوروبية”، الذي يشترط أن يكون 65% من قيمة أي منظومة تسليح ممولة منتجًا داخل الاتحاد الأوروبي أو أوكرانيا أو المنطقة الاقتصادية الأوروبية، مقابل 35% فقط من دول ثالثة، مع إمكانية تجاوز هذه النسبة في حال إبرام شراكات أمنية ودفاعية رسمية، كما هو الحال مع اليابان.
ولا يقتصر البعد الاستراتيجي للبرنامج على التمويل أو الشراء الجماعي، بل يمتد إلى رهانات سيادية عميقة، أبرزها ما تسميه بروكسل “سلطة التصميم”، أي ضمان التحكم الأوروبي الكامل في البرمجيات والمكونات الحساسة للأنظمة العسكرية، تفاديًا لأي تعطيل خارجي محتمل، أو ما يُعرف بسيناريو “زر الإيقاف”.
وبهذا المعنى، يتحول SAFE إلى منصة سياسية–صناعية تهدف إلى إعادة هندسة الأمن الأوروبي، وربط الصناعات الدفاعية بالقرار السياسي، وبناء شبكة ردع متعددة الأطراف تتجاوز التحالفات الجغرافية التقليدية.
في المحصلة، يعكس انفتاح أوروبا على اليابان ضمن إطار SAFE انتقالًا من مفهوم الدفاع القاري إلى نموذج شبكة ردع عالمية، تقوم على تقاطع المصالح والمخاطر المشتركة، وتؤسس لمرحلة جديدة من التقارب الاستراتيجي بين أوروبا وآسيا، في عالم تتسارع فيه الأزمات وتتداخل فيه ساحات الأمن والاقتصاد والسياسة بشكل غير مسبوق.




