توب ستوريخارجي

من «غنيمة» لم تُزغرد لها القلوب إلى «مديحة يسري»… طفلة وُلدت بالخوف وصنعت المجد

في صباح الثالث من ديسمبر عام 1918، وُلدت طفلة لم تستقبلها زغرودة واحدة. لم يكن الصمت يومها نابعًا من الحزن بقدر ما كان خوفًا؛ فالأم كانت تنتظر ولدًا بشغف، خشية أن يطلقها زوجها إذا جاءت بأنثى، حتى إنها ظلت طوال شهور الحمل تنادي جنينها «أبو أحمد». لكن القادم لم يكن أحمد، بل فتاة أُطلق عليها اسم غنيمة خليل علي، ولقبها المدلل «هنومة».

وعلى عكس كل التوقعات، لم يغضب الأب حين علم بمولد ابنته، بل فرح بها فرحًا بالغًا، وحملها بين ذراعيه كأنها هدية العمر. عندها فقط، أصدرت الأم أوامرها للنساء في البيت بأن يزغردن، لتتحول لحظة الخوف إلى احتفال مؤجل.

مرت الأيام، وازداد تعلق الأب بغنيمة، التي كانت لا تفارق الابتسامة وجهها. وبعد فترة قصيرة، بدأ يشعر أنها «وش السعد» عليه. هذا الإحساس لم يكن مجرد عاطفة أب، بل ترسخ مع واقعة سترويها غنيمة لاحقًا بنفسها. فقد كان والدها يعاني مرض السكري، وأنفق نصف ثروته على الأطباء بلا جدوى، إلى أن جاء يوم ميلادها، فاهتدى طبيب إلى علاج فعال أعاده إلى عافيته، وكأن قدومها حمل معه الشفاء.

منذ ذلك الحين، شاع في العائلة أنها «مبروكة». صار الأقارب يستبشرون بها خيرًا، وراح بعضهم يتبرك بضحكتها. وكان من بينهم تاجر ترتبط تجارته بالبورصة، اعتاد زيارتهم يوميًا، فإذا ضحكت له غنيمة، ربح كثيرًا، وكان يخصص جزءًا من مكاسبه لها في صورة هدايا وألعاب.

في الخامسة من عمرها، التحقت غنيمة بمدرسة الغورية للبنات، حيث أظهرت ذكاءً ملحوظًا، وانتقلت بتفوق إلى مدرسة شبرا، ثم إلى مدرسة الفنون الطرزية بعد المرحلة الابتدائية. ورغم نبوغها الدراسي، فاجأها والدها ذات يوم بقرار قاطع: «كفاية تعليم لحد كده». بكت غنيمة بحرقة وسألت عن السبب، فجاء الرد صادمًا: «كبرتي، والأفضل لك شهادة الجواز».

لم تمضِ سوى أسابيع حتى طرق أول خاطب الباب، شاب ثري صاحب عمارتين وموظف حكومي مرموق. رفضته غنيمة بإصرار، معلنة تمسكها بمن تحب: ابن الجيران، الطالب الجامعي. اشتعل الخلاف، واتهمها الأب بأن التعليم أفسد البنات، لكنها عاندت، وحبست نفسها في غرفتها أسبوعًا كاملًا بلا طعام ولا شراب، حتى خضع الأب لرغبتها.

اتفق الجميع على إتمام الزواج بعد عام، لكن الشاب اختفى، مفضلًا وظيفة خارج القاهرة على أي شيء آخر، بما في ذلك غنيمة نفسها. توقع الجميع انهيارها، لكنها فاجأتهم بالقوة، وقررت أن تركز في حياتها فقط.

وذات يوم، وبينما كانت تجلس مع صديقاتها، لفت انتباهها رجل يراقبها عن كثب. اقترب منها وعرّف نفسه: المخرج محمد كريم، الباحث عن وجوه جديدة للسينما. توقفت اللحظة، وتذكرت كلمات زميلاتها قديمًا عن جمالها وصلاحيتها للتمثيل، فأجابت دون تردد: «مفيش مانع».

وفي اليوم التالي، باعت ساعتَها الغالية لتشتري فستانًا أنيقًا، وجلست أمام محمد عبدالوهاب، الذي أقر بموهبتها وجمالها، لكنه اعترض على اسمها. وبعد نقاش طويل، قال كلمته الحاسمة: «من النهارده اسمك مديحة يسري». وهكذا وُلدت نجمة من رحم الخوف، لتصبح واحدة من أيقونات السينما المصرية.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى