
في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت الإسكندرية على موعد مع صوت لا يشبه سواه، صوت خرج من قلب “الثغر” يحمل دفء البحر ومرارة الحياة. كانت تلك هي بدرية السيد، أو كما عُرفت شعبيًا بـ “بدارة”، ملكة الموال الإسكندراني، وإمبراطورة الأغنية الشعبية التي ملأت المقاهي والملاهي ببهجة الطرب المصري الأصيل.
من بنت الحارة إلى إذاعة الإسكندرية
ولدت بدرية السيد في الإسكندرية، واسمها الحقيقي بدور مصطفى أحمد الشامي، وسُجّل بهذا الاسم في أوراقها الرسمية. كانت من أوائل المطربين الذين احتضنتهم إذاعة الإسكندرية في بداياتها، حين قدّمها إلى المستمعين الملحن الكبير محمد الحماقي عام 1954، لتبدأ رحلة صعودها الفني من أحياء المدينة الشعبية إلى قلوب الجمهور في كل مصر.
ذاع صيتها بسرعة مذهلة، حتى أصبحت نجمة الأفراح الأولى في الإسكندرية. شاركت بالغناء في فرق موسيقية شهيرة آنذاك مثل فرقة حمامة العطار وخليل الفكهاني وسيد بخيت ونعمة السمرة وغيرهم، وكان صوتها الشعبي الأصيل بطاقة العبور إلى وجدان الناس.
جملة خلدتها الدراما المصرية
ارتبط اسم بدرية السيد بواحدة من أشهر الجمل في الدراما المصرية:
“يا حموووو.. التمساحة يا وله!”
تلك الصيحة الشهيرة التي نطقتها الفنانة سناء جميل في مسلسل الراية البيضا من تأليف *أسامة أنور عكاشة.
يؤكد الأديب السكندري مصطفى نصر في مذكراته أن سناء جميل استوحت طريقة نطق الجملة من بدرية السيد نفسها، بعدما زارتها في كازينو رأس التين لتتعلم منها اللهجة السكندرية الأصيلة، فكانت النتيجة أداءً خالدًا في ذاكرة الدراما.
عمار الشريعي.. حلم لم يكتمل
روى الموسيقار عمار الشريعي في أحد حواراته الإذاعية أن من أعز أمانيه التي لم تتحقق كان أن يلحن لبدرية السيد.
وقال في شهادته:
“مهما لحّنت لها، ما كنتش هعرف أديها زي ما عمل ملحّني إسكندرية، دول عباقرة في التعبير عنها.”
كما ذكر أنه ذات مرة صعد إلى المسرح في أحد أفراح الإسكندرية، واستأذن زوجها محمد حسين ليعزف على الأكورديون خلفها أثناء إحدى أغنياتها، فكانت لحظة طربية لا تُنسى.
بين الموال والمسرح.. رحلة فنية عامرة
قدمت بدرية السيد عشرات المواويل والأغنيات الشعبية التي حفظها الناس وتوارثوها، من بينها:
“ادلع يا رشيدي”، “يا سواحلية”، “مسيلي على الغايب”، “موال طلعت فوق السطوح”، “بحبه يا خالة”، “يا اللي الحياة غرتك”، “حلوة والنبي”، “العدل فوق الجميع”، وغيرها من الأعمال التي عبّرت عن وجدان البسطاء ولهجتهم ومشاعرهم الصادقة.
كانت بدرية تجمع بين خفة الدم السكندرية والحضور الطاغي، فكانت نجمة الأفراح الشعبية وسيدة الموال بلا منازع.
تجربة تمثيلية وحيدة.. في “مملكة الهلوسة”
في عام 1983، خاضت بدرية السيد تجربتها التمثيلية الوحيدة في فيلم “مملكة الهلوسة” من إخراج محمد عبد العزيز وتأليف أحمد الخطيب.
شاركها البطولة نخبة من نجوم العصر: محمود عبد العزيز، حسين فهمي، سعيد صالح، حسن عابدين، ماجدة الخطيب، عدوية، أحمد بدير، حسين الشربيني، سامي العدل وغيرهم.
دارت أحداث الفيلم في الإسكندرية، حول تاجر مخدرات يُدعى “قدورة” يدير شبكة ضخمة لترويج الحبوب المهلوسة، بينما يحاول ضابط شرطة التسلل إلى عالمه وكشف جرائمه.
وقدمت بدرية في الفيلم شخصية المعلمة بلطية، شريكة قدورة، التي كانت تدير بارًا يُستخدم كواجهة لتجارة المخدرات، وغنّت فيه واحدة من أغنياتها الشهيرة:
“إنت الحدق بتاع كله”.
بدرية السيد.. بين الأسطورة والواقع
رغم ما أُثير حولها من شائعات عن ارتباطها بعوالم الليل أو التجارة في المخدرات، فإن الحقيقة أن بدرية السيد ظلت فنانة شعبية خالصة، ابنة بيئتها، عاشت للفن وقدّمت ما آمنت به من صوت الناس وللناس.
هي واحدة من الأصوات التي حملت ملامح مصر القديمة، بصدقها وبساطتها، وبقيت في ذاكرة التراث الشعبي كرمز من رموز الطرب السكندري الأصيل.