
خلال جولة في أوروبا، تعرّف المهندس الشاب محمد فخر الدين إلى فتاة مجرية جميلة تدعى باولا، وسرعان ما جمع بينهما الإعجاب والحب، لينتهي الأمر بزواجٍ عاطفي رقيق قررا بعده أن يستقرا في مصر، تحديدًا في الفيوم. وهناك عاشا حياة هادئة سعيدة، ازدادت بهجة يوم 8 سبتمبر عام 1931 بولادة ابنتهما الأولى مريم. كانت مريم مدلّلة الأسرة، تحيطها الرعاية والحنان حتى جاء ميلاد شقيقها يوسف بعد أربع سنوات، فبدأت الغيرة الطفولية تتسلل إلى قلبها.
تحكي مريم في أحد لقاءاتها التلفزيونية أنها شعرت بالغيرة الشديدة من أخيها، حتى إنها عندما أصيبت بالسعال الديكي سمعت الطبيب يحذر أمها من اقترابها من المولود الجديد خوفًا من العدوى، فاستغلت ذلك وحاولت أن تنقل له العدوى عمدًا! لكن والدتها اكتشفت الأمر وعاقبتها بشدة، لتبدأ مريم منذ ذلك الحين في إدراك أن الطفولة المرفّهة قد انتهت، وأن التربية الصارمة بدأت.
نشأت مريم في بيتٍ يجمع بين الانضباط الأوروبي والأخلاق الشرقية، فوالدتها كانت تؤمن بأن الفتاة لا بد أن تكون قوية ومسؤولة، فأدخلتها مدرسة ألمانية عُرفت بالصرامة والنظام. وتحكي مريم أنها عندما طلبت من والدتها مصروفًا مثل زميلاتها، ردّت عليها بأن “من يطلب المال دون مقابل يُعد شحاذًا”، فقررت مريم أن تعمل داخل البيت وتكوي ملابس الأسرة مقابل أجر رمزي، حتى لا تكون “شحّاذة”، كما قالت الأم.
ولم تتوقف الأم عند هذا الحد، بل علّمت ابنتها فنون التدبير المنزلي بنفسها. ففي أحد الأيام، أخذتها لزيارة بعض الأقارب، وهناك رأت مريم ثلاث فتيات يعملن في الغسيل، فسخرت منهن، فقررت الأم أن تلقّنها درسًا عمليًا. جمعت الغسيل في اليوم التالي وبدأت العمل أمامها، قائلة: “اقعدي اتعلمي وساعديني”. وبالفعل بدأت مريم تساعد أمها، وتعلّمت تدريجيًا الغسيل ثم الطبخ، حتى أتقنته وأحبّته، رغم إخفاقها الأول عندما أحرقت الخضار وعجّنت الأرز.
كانت مريم فتاة جميلة بشكل لافت، لكن أهلها لم يفكروا في استثمار جمالها فنيًا، بل أرادوا لها أن تكون زوجة مثالية فقط. غير أن القدر كان يُخبئ لها طريقًا آخر. ففي عيد ميلادها السادس عشر، طلبت من أمها أن تسمح لها بالتقاط صور في أحد الاستوديوهات الشهيرة كهدية عيد ميلاد. وافقت الأم بشرط ألا يعلم الأب. وهناك، أقنع المصور “واينبرج” الأم بأن تشارك الصور في مسابقة فتاة الغلاف لمجلة “إيماج”، لتكون مجانية بدلًا من مدفوعة. وبعد أيام، تفاجأت الأسرة بصورة مريم على غلاف المجلة وقد فازت بالمركز الأول.
تحول الأمر إلى أزمة كبرى داخل البيت، إذ ثار الأب غضبًا وهاجم الأم بشدة، خاصة بعدما انهالت عروض الزواج والسينما على ابنته الجميلة. لكن المخرج أحمد بدرخان، وهو صديق قديم للعائلة، جاء ومعه سيناريو فيلم ليلة غرام، وأصر على أن مريم هي الأنسب للدور. وبعد إلحاح شديد وافق الأب، لكن بشروط ثلاثة صارمة: ألا ترتدي ملابس جريئة، وأن يرافقها أحد أفراد الأسرة في التصوير، وأن تظهر في أول مشهد وهي تصلي.
قبل بدرخان بالشروط، وبدأت مريم رحلتها الفنية. كانت تمارس الرياضة يوميًا، لكن بدرخان طلب منها التوقف لأنها نحيلة وتحتاج لزيادة وزنها. استجابت مريم مضحيةً بهوايتها المفضلة. أدّت دورها في ليلة غرام بنجاح لافت، لتبدأ بعدها شهرتها في عالم السينما، قبل أن تفقد والدها، فيصبح سندها الوحيد والدتها التي سيطرت على حياتها بالكامل.
قالت مريم في حوار تلفزيوني صريح: “أنا اتعودت إن حد يحتلني”، أي أن يكون هناك من يقودها ويسيطر عليها، وهو ما ورثته من والدتها التي كانت تتحكم في كل تفاصيل حياتها. حاولت التحرر من تلك السيطرة بالزواج، لكنها لم تجد السعادة في أي من زيجاتها الأربع. قالت مازحةً في أحد اللقاءات: “عمري ما لبست فستان فرح، ولا عملت فرح في حياتي. محمود ذو الفقار رفض الكوشة، والدكتور الطويل اتجوزته في لندن، وفهد بلان في لبنان، أما شريف فكنت قد كبرت وابنتي صارت بطولي، فلم يعد للفرح معنى.”
وهكذا، كانت مريم فخر الدين مثالًا للفتاة التي جمعت بين الجمال والألم، بين الطاعة والطموح، بين أنوثة حالمة وقيود عائلية صارمة، لتصبح واحدة من أكثر النجمات حضورًا في ذاكرة السينما المصرية.




