
لم يكن حضور محمود المليجي أمام الكاميرا حضورًا عاديًا يمكن تجاوزه. فحتى لو امتلأ الكادر بالنجوم، يظلّ تركيز المشاهد ينزلق نحوه بلا وعي، كأنّ لعينه جاذبية خاصة، وكأن لجسده لغة أخرى تُكمل الحوار دون أن ينطق كلمة واحدة. هذا التأثير لم يكن مصادفة، بل كان نتاج ذكاء فني نادر، وهو السرّ الذي كشفته الفنانة الكبيرة هند رستم في إحدى تجاربها معه.
كانت هند رستم تدخل أي مشهد أمام المليجي بحذر وحضور كامل، فهي كما تقول عنه دائمًا: “غول تمثيل”، ممثل لا يمكن التهاون في الوقوف أمامه. وفي أحد المشاهد التي جمعتهما، وهو مشهد حواري بسيط يُؤدَّى أثناء السير في صالة داخل موقع التصوير، اكتشفت هند السرّ الذي جعل المليجي سارقًا محترفًا للكاميرا.
في هذا المشهد كان الحوار الأكبر من نصيب هند، بينما يقف المليجي مستمعًا. وأثناء حديثها، فوجئت بالمليجي يمدّ يده بهدوء، فيلتقط وردة من فازة قريبة. لم يكن الأمر مكتوبًا في السيناريو، لكنه بدأ يعبث بالوردة بطريقة دقيقة، يقطع أوراقها واحدة تلو الأخرى في حركة تشبه الرسم أكثر مما تشبه العبث. لقد أدركت هند فورًا أن ما يقوم به ليس ارتجالًا عابرًا، بل طريقة ذكية لجذب عين المشاهد نحوه رغم صمته.
ولأن هند كانت فنانة شجاعة وواعية لخطورة الوقوف أمام ممثل من طراز المليجي، قررت أن تردّ عليه بدهاء. فمدّت يدها فجأة وخطفت منه الوردة وهي تلقي بجملة مرتجلة قائلة: “لما أكلمك بصّ لي”، ثم واصلت أداء المشهد كأن الجملة جزء من الحوار الأصلي.
بعد انتهاء التصوير، شعرت هند بالقلق. كانت تعرف أن المليجي شديد الذكاء وقد يفهم رسالتها جيدًا، فهربت إلى غرفتها تتفادى مواجهته. لكنها فوجئت به يطرق الباب، ويدخل بابتسامته الهادئة الشهيرة، دون غضب أو توتر. اقترب منها قائلاً:
“برافو عليكِ يا هند… خليكي دايمًا صاحية للممثل اللي قدامك.”
كانت هذه الجملة اعترافًا ضمنيًا بأن ما فعلته كان في محلّه، وأنها أثبتت قدرتها على مصارعته فنيًا داخل الكادر. فقد كان المليجي، رغم مكانته الكبيرة، يحترم ممثلًا يقف أمامه وهو واعٍ ومدرك لقواعد اللعب.
لم يكن محمود المليجي مجرد ممثل يؤدي دوره، بل كان لاعبًا ماهرًا يعرف كيف يشغل الكادر كله وهو واقف في زاوية منه. حركة يد، التفاتة عين، طريقة وقوف… كلها عناصر محسوبة بدقة تجعل حضوره طاغيًا. ولذا لم يُجمع النقاد والجمهور على لقبه “شرير السينما” فحسب، بل أيضًا على كونه واحدًا من أكثر الممثلين وعيًا بالكاميرا وذكاءً أمامها.
إنّ موهبة المليجي، كما أجمع الفنانون والمشاهدون، لم تكن في الحوار ولا في الصوت فقط، بل في تلك القدرة الاستثنائية على صنع تفاصيل صغيرة تشعل حياة في المشهد، وتحوّل اللحظة الصامتة إلى بطولة كاملة.
ولذلك، لا خلاف اليوم على أنه أحد أعظم ممثلي تاريخ السينما المصرية، وربما الأكثر دهاءً واحترافًا في خطف الكاميرا دون أن يطلب منها شيئًا… فهي التي كانت تأتي إليه طواعية، كل مرّة.



