
شهدت مصر في أواخر الثمانينيات واحدة من أخطر حملات التكفير التي استهدفت كاتبًا عربيًا، وذلك حين أصدر الشيخ عمر عبد الرحمن، مفتي الجماعة الإسلامية آنذاك، فتوى بإهدار دم الأديب العالمي نجيب محفوظ بسبب روايته «أولاد حارتنا».
وبرّر عبد الرحمن فتواه بأنها “لمصلحة المجتمع”، قائلًا إن المجتمع المسلم “لا يجوز أن يعيش فيه رجل كافر”، وفق زعمه. وقد استخدم الشيخ خطابًا تعبويًا علنيًا، سرعان ما تحوّل إلى شرائط كاسيت بعنوان: «دليل كفر نجيب محفوظ»، تُباع على الأرصفة أمام المساجد، في مشهد يكشف حجم التطرف الذي كان يتمدد اجتماعيًا آنذاك.
وعلّق نجيب محفوظ لاحقًا قائلاً إنه قرأ الفتوى بنفسه، لكنه لم يعطها اهتمامًا كبيرًا، مضيفًا: «يا ليت الناس تقرأ الرواية قبل أن تهاجمني، وقبل أن يصدروا حكمًا بإعدامي دون محاكمة». ومع ذلك، أدركت أجهزة الأمن خطورة الفتوى، وطلبت من محفوظ قبول حراسة دائمة، لكنه رفض معتبرًا أن الأمر “لا يستحق”.
خلية تكفيرية تخطّط للقتل… وخطتان فاشلتان
تكوّنت خلية عنقودية من خمسة أفراد اتفقوا على تنفيذ فتوى الشيخ عمر عبد الرحمن. كان أبرزهم:
محمد ناجي علي: فني لإصلاح الأجهزة الكهربائية، انضم للجماعة الإسلامية قبل الحادث بأربع سنوات.
محمد خضير أبو الفرج المحلاوي: أحد العناصر المتشددة المرتبطة فكريًا بالجماعة.
بدأ التخطيط لاغتيال الأديب عبر عدة محاولات تمويه؛ الأولى أن ينتحل الجناة صفة فنيي كهرباء ويحاولوا دخول منزله. والثانية أن يرتدوا الزي العربي ويحملوا باقة ورد، ويوهموا أسرته بأنهم زوار من دولة عربية يرغبون في تحيته. بالفعل نفّذوا الخطة الثانية، لكن تأخرهم في شراء الورود جعل ابنته تعتذر لهم، ونصحتهم بلقاء والدها في ندوته الأسبوعية بـ«كازينو قصر النيل».
لكن القدر كان يخبّئ مشهدًا آخر تمامًا.
الجمعة الدامية… لحظة الطعن
في الساعة الرابعة عصرًا من يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994، غادر نجيب محفوظ منزله في العجوزة متجهًا إلى ندوه الأسبوعي، يرافقه صديقه الطبيب البيطري الدكتور محمد فتحي هاشم الذي كان ينتظره داخل سيارته الـ«128».
وكان الروائي والقاضي السابق أشرف العشماوي، المسؤول عن التحقيق في القضية، قد روى أن الجناة كانوا في طريقهم لمعاينة المكان الذي سيُنفّذون فيه الجريمة، ولم يحملوا سوى «مطواة قرن غزال». وبينما كانوا يسيرون في الشارع، فوجئوا بنجيب محفوظ يخرج دون حراسة، فاتجه إليه أحدهم مناديًا: «يا أستاذ… يا أستاذ محفوظ».
وكعادته، ابتسم محفوظ ورحّب به دون معرفة هويته. وهنا استغل الجاني اللحظة، وأخرج المطواة وطعنه في رقبته، قبل أن يفرّ هاربًا على دراجة نارية يقودها شريكه.
نُقل محفوظ بسرعة إلى مستشفى الشرطة القريب، وقال لاحقًا: «من توفيق الله أن المستشفى كانت بجوار منزلي، فلو كانت أبعد قليلًا لمِتّ، فالطعنة كانت عميقة». وأوضح الأطباء أن الجاني لم يسحب السكين بعد غرسها، ما ساهم في إبطاء النزيف وإنقاذ حياته.
المتهم… لا يقرأ ولا يعرف اسم ضحيته
بعد 24 ساعة فقط، أُلقي القبض على أحد المشاركين، ثم توالى كشف باقي أفراد الخلية حتى وصل العدد إلى عشرين متهمًا. وكانت الصدمة أن الشاب الذي طعن الأديب لم يكن يجيد القراءة والكتابة، وكان يطلق عليه في التحقيق «محفوظ نجيب»، ما يؤكد أنه لم يقرأ له حرفًا، وأن التحريض الأعمى كان وحده دافعه.
تسببت الطعنة في إصابة أعصاب الذراع والكتف، ففقد محفوظ القدرة على الكتابة بيده اليمنى إلا دقائق معدودة يوميًا. بدأ الأديب العجوز — وقد تجاوز الثمانين — يتمرّن من جديد على الكتابة، وكانت أولى الجمل التي كتبها:
«لا إله إلا الله محمد رسول الله».
وتحتفظ متحف نجيب محفوظ بخمسة دفاتر كتبها بخط متأثر بشدة بإصابته.
خوف… وعلاج نفسي… ومحاولات لاستعادة الحياة
رغم نجاح الجراحة، رفض محفوظ الخروج من المستشفى لشعوره بالخوف الشديد بعد الحادث. فاستعانت إدارة المستشفى بالطبيب النفسي الدكتور يحيى الرخاوي، الذي أقنعه تدريجيًا بالعودة للحياة والخروج لمقابلة الناس كل يوم، حتى يستعيد توازنه النفسي.
وفي تلك المرحلة، كان محفوظ يُملي كتاباته على أصدقائه المقربين مثل جمال الغيطاني ومحمد سلماوي، قبل أن يستعيد قدرته جزئيًا على الإمساك بالقلم.
زيارات سياسية ودينية… ورفض للإعدام
زار الأديب الكبير عدد من المسؤولين، بينهم رئيس الوزراء عاطف صدقي ووزير المالية، الذي مازحه محفوظ قائلًا: «أنت جاي علشاني؟ دا أنا دفعت الضرايب والله».
كما زاره الشيخ محمد الغزالي والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، رغم الهجوم الذي تعرّض له الأخير من المتشددين بسبب موقفه الداعي للحوار والتهدئة.
أما محفوظ نفسه، فرفض إعدام المتهمين، قائلاً إنه لا يحمل حقدًا تجاه من حاول قتله.
الخلية… مخزن أسلحة وخطط للتفجيرات
أثناء تفتيش شقة المتهمين في الخصوص، عُثر على كميات من الأسلحة البيضاء والذخائر والمفرقعات، وساطور، ومنشار، وخنجر، إلى جانب خطط لعمليات موسعة، منها:
تفجير سينما هليوبوليس أثناء عرض فيلم «الإرهابي».
اغتيال رئيس المحكمة العسكرية العليا.
تفجير أفراح وملاهٍ ومحلات فيديو.
قائمة اغتيالات تضم فرج فودة، أنيس منصور، إحسان عبد القدوس، و30 مفكرًا مصريًا و60 عربيًا و15 سعوديًا.
أحكام القضاء… إسدال الستار
في 29 مارس 1995، نُفّذ حكم الإعدام شنقًا بحق:
محمد ناجي محمد مصطفى
محمد خضير أبو الفرج المحلاوي
وصدر الحكم بالسجن المؤبد على متهمين آخرين، والأشغال الشاقة على ثالث، بينما حصل باقي المتهمين على البراءة.
بهذه الحادثة، دخل نجيب محفوظ تاريخًا آخر غير تاريخ الأدب:
تاريخ المبدع الذي قاوم بسماحته وإيمانه ضربة كادت تنهي حياته، لكنه خرج منها أكثر إنسانية ورحابة، وكأن الجرح أعاد تشكيل روحه من جديد.




