
كانت فاطمة رشدي واحدة من أهم رائدات الفن في مصر والعالم العربي، امرأة صنعت مجدها بموهبتها وجرأتها وإصرارها على أن تكون، فملأت الدنيا وشغلت الناس، حتى لُقبت بـ“سارة برنار الشرق”، و“ملكة المسارح”، بل و“صديقة الطلبة”، إذ خصصت تذاكر مخفضة لطلاب الجامعات الراغبين في حضور عروض فرقتها المسرحية التي حملت اسمها “فرقة فاطمة رشدي”.
البدايات.. فتاة تأسر فؤاد سيد درويش
بدأت فاطمة رحلتها الفنية مبكرًا عام 1921، حين لمحها فنان الشعب سيد درويش فأدرك ما تملكه من طاقة تمثيلية فريدة، فدعاها للانضمام إلى فرقته المسرحية. لم تكن الفتاة تعلم أن تلك الدعوة ستكون بوابة المجد، فسرعان ما شدت الرحال إلى القاهرة، لتبدأ فصلاً جديدًا من حياتها على خشبة المسرح.
انضمت إلى فرقة نجيب الريحاني، وهناك بزغ نجمها وسط عمالقة المسرح المصري، لتؤسس لاحقًا فرقتها الخاصة التي حملت اسمها. قدمت من خلالها عشرات المسرحيات التي صنعت مجد المسرح المصري في النصف الأول من القرن العشرين. ومع انتقالها إلى السينما، تألقت في عدد من الأفلام، أبرزها فيلم “العزيمة” الذي صنّف ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية.
أفول الأضواء.. لكن العشق لا ينطفئ
ومع مرور السنوات، بدأ بريق الشهرة يخفت شيئًا فشيئًا. ظهرت وجوه جديدة شابة جذبت الكاميرات والمنتجين، لكن فاطمة رشدي لم تعرف طريق الانكسار. ظلت مؤمنة بأن المسرح هو بيتها الأول والأخير، وأصرت على أن تبقى داخله، مهما تغيرت الظروف، قائلة في أحد حواراتها: “سأمثل على قارعة الطريق لو لم أجد مسرحًا أمثل عليه.”
صدمة الوسط الفني.. “فاطمة رشدي تعمل في كباريه؟”
عام 1957 كانت المفاجأة التي هزّت الوسط الفني، حين علم الجميع أن فاطمة رشدي تعمل في كازينو أوبرا، أحد الملاهي الليلية الشهيرة وقتها. انتشرت الأقاويل سريعًا بأن “سارة برنار الشرق” انتهى بها المطاف راقصة في كباريه، فهرع إليها محرر من مجلة “الكواكب” ليتأكد بنفسه.
وجدها الصحفي في غرفة صغيرة لا تليق بتاريخها ولا مجدها، لكنها استقبلته بابتسامة وكرامة وقالت:
“لقد قبلت هذا العمل بكامل إرادتي، أنا هنا أمثل، أختار أدواري ومؤلفيّ ومخرجيّ، ولم يجبرني أحد على شيء.”
وأضافت: “الناس تقول إنني أعمل في كباريه، لكن الحقيقة أنني أعمل على المسرح. الكباريه يبدأ عمله في الواحدة صباحًا، بينما أنتهي أنا من عرضي في الحادية عشرة. أنا أمثل في اسكتش وطني مع صفية حلمي، وحتى لو غنيت أو رقصت، أليس الغناء والرقص فنًا؟”
بهذا الرد، وضعت فاطمة رشدي النقاط فوق الحروف، مؤكدة أنها ما زالت فنانة تؤدي دورها الفني، لا امرأة تبحث عن رزق في الملاهي الليلية كما روج البعض.
فنانة في مواجهة النسيان
لم تكن تجربة كازينو أوبرا سوى انعكاس لحقيقة أكثر قسوة، وهي أن الزمن قد أدار ظهره لفاطمة رشدي. فقد تراجع الاهتمام برائدات المسرح، وأصبحت السينما التجارية وموجة الشباب تسيطر على الساحة. لكنها لم تستسلم، بل كانت تقول دوماً:
“الفنان في مصر لا يُكرم إلا بعد موته.”
كانت كلماتها تلك بمثابة نبوءة مؤلمة، إذ رأت كيف يتم تجاهل الكبار أحياءً، بينما يُغدق عليهم التكريم بعد رحيلهم. قالت ذات مرة في حوار صادق:
“لقد اعترفوا جميعًا أنني نابغة، مثلت أكثر من 400 مسرحية، لكنهم لا ينوون تقديري أو تكريمي وأنا حية. أريد أن أُكرم وأنا ما زلت أتنفس.”
إرث لا يُنسى
رغم ما واجهته من صعوبات وانكسارات، تبقى فاطمة رشدي رمزًا للفن الحقيقي والإصرار على الإبداع حتى آخر لحظة. هي المرأة التي صعدت من الهامش إلى القمة، وأصرت أن تموت ممثلة كما ولدت ممثلة.
لم تكن تبحث عن الشهرة بقدر ما كانت تبحث عن الخلود في ذاكرة المسرح. وبالفعل، بقي اسمها محفورًا في وجدان كل من يعرف قيمة الفن، لأنها لم تكن مجرد ممثلة، بل مدرسة في الشغف والعزيمة، علمت الأجيال أن الفن رسالة.. لا مهنة.




