

في شهادتها الصادقة، تحكي الفنانة دولت أبيض عن البدايات الأولى للسينما المصرية، وكيف كان المسرح هو الميدان الذي أبدعت فيه هي وزملاؤها قبل أن يخطر لهم اقتحام عالم الشاشة البيضاء. تقول دولت إنهم في تلك الفترة لم يكونوا يعرفون شيئًا عن أسرار السينما، رغم براعتهم الكبيرة في الفنون المسرحية، وكانوا يتطلعون بشغف إلى الأفلام الأجنبية، منبهَرين بروعة الإخراج وبراعة الممثلين وعظمة الموضوعات، وهو ما جعل فكرة دخول ميدان السينما يبدو لهم محفوفًا بالمخاطر، خاصة وأن السينما كانت صامتة ولم يكن النوع الناطق قد عُرف بعد.
في هذا الجو المليء بالحماسة والفضول، خطر لدولت أبيض أن تبدأ تجربة فيلم بعنوان “ياراحت يا جت”، ومع الكشف عن الفكرة للأستاذين إسماعيل وهبي وشقيقة يوسف وهبي وجدت دعمًا كاملًا وإيمانًا بالفكرة، ما جعل الخطوة التالية واضحة: تنفيذ الفيلم. وبدأت التحضيرات لإخراج قصة “زينب” للدكتور هيكل باشا، وتم الاتفاق مع الأستاذ محمد كريم لتولي الإخراج، ومع الممثلين على المشاركة في العمل بدون أجر، لوجه الفن والوطن، إذ كان الفشل محتملًا للغاية، لكن الحماس والرغبة في الظهور على الشاشة كانا أقوى من أي اعتبار مالي.
ومن بين الممثلين الذين شاركوا في الفيلم: بهيجة حافظ، زكي رستم، سراج منير، وغيرهم، حيث اعتبر الجميع أن التواجد على الشاشة البيضاء كان حلمًا يتفوق على أي أجر مادي. بدأ تصوير المشاهد باستخدام كاميرا واحدة على سطح ستوديو مصر، ومع نقص المعدات الكهربائية، لجأ فريق العمل إلى المرآة لعكس ضوء الشمس على وجوه الممثلين، لتقليد الإضاءة السينمائية التي لم تتوفر لهم.
وكانت التحديات كبيرة، خصوصًا بسبب اختلاف أساليب الإخراج السينمائي عن المسرحي، وهو ما ظهر جليًا في التعليمات الغريبة للمخرج. تروي دولت أبيض موقفًا عالقًا في ذاكرتها، حين أُمرَت بالبكاء فجأة على بطلة الرواية، دون أي تمهيد كما هو معتاد على المسرح. ومع صعوبة المهمة، تمكنت في النهاية من استدرار الدموع باستخدام بعض الأسطوانات الموسيقية الحزينة، لتتوافق مع المشهد المطلوب.
استمر العمل عامًا كاملاً، بين أوقات يأس وأمل، ومع عرض الفيلم، فوجئ الفريق بردود فعل الجمهور، الذي لم يقابلهم بالبيض والطماطم كما توقعوا، رغم أن ثمنهما كان رخيصًا في ذلك الوقت. هذه التجربة شكلت محطة فارقة في حياة دولت أبيض، وجعلتها جزءًا من الجيل المؤسس للسينما المصرية، الذي واجه التحديات بشغف وإبداع، وقدم الأعمال الأولى على الرغم من الإمكانيات المحدودة، لتصبح الشهادة التي تروي تاريخ بدايات الفن السابع في مصر.




