
يُعد فيلم «جرى الوحوش» من أهم أعمال المؤلف والكاتب الكبير محمود أبو زيد، الذي صرح في حوار مع الناقد بلال فضل بأن الفيلم يمثل عنده تجربة روحية وفنية متميزة، قائلاً: «أعتبره أمام الله من أحسن أفلامي». وتدور أحداث الفيلم حول سؤال جوهري شغل ذهن المؤلف طويلًا: من أين يأتي الرزق؟ وكيف يُقسّم بين الناس؟.
تبدأ الحكاية بشخصية سعيد أبو الدهب، التي يجسدها النجم نور الشريف، رجل ثري يمتلك ثروة كبيرة من تجارة الذهب، لكنه يعيش حالة من التعاسة والمرارة لأنه لا ينجب، ويجد نفسه معزولاً رغم كل ما يمتلكه من مال. رافق سعيد في حياته زوجة مخلصة تدعى وفاء، التي تقف إلى جانبه في محنته، رافضة أن تتركه رغم خذلان الظروف له.
في المقابل، يظهر عبد القوي شديد، تجسيدًا للفحولة والشجاعة، الذي يقوم به محمود عبد العزيز. عبد القوي يصبح هدفًا لسرقة الانتريال لوب (تور لوب) منه، وهو رمز للقوة والطموح، ما يضعه في مواجهة صراعات كبيرة، سواء مع الطامعين في ممتلكاته أو مع قسوة الحياة نفسها.
أما الشخصيات الفكرية والحكيمة في الفيلم، فقد خصّ المؤلف حسين الشربيني بالدور المُلهم، أطلق عليه اسم عبد الحكيم، وهو صوت الحكمة في القصة، الذي يفسّر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بالرزق والعدالة الإلهية، مُقدّمًا التوجيه والنصيحة للشخصيات المتأزمة. كان اختيار الشربيني مفاجئًا للبعض، خصوصًا أن الدور يحتاج إلى جدية كبيرة، لكن أبو زيد دافع عن اختياره، مؤكدًا أن شخصية عبد الحكيم تشبه كثيرًا الشربيني في الواقع، وأنه رجل متدين وواعٍ، قادر على نقل المعاني الروحية بصدق.
من الشخصيات الطريفة أيضًا نبيه، الطبيب الذي يحمل اسمه نوعًا من السخرية، فهو يظهر متعلمًا من ناحية، لكنه أحيانًا يبدو بلا فهم من ناحية أخرى، ليضفي عنصر الفكاهة والتهكم على الأحداث. وكذلك نواشي، الشخصية النسائية التي تضيف بعدًا إنسانيًا لعوالم محمود أبو زيد، وأبو رخريخ، الغفير الوفي الذي يرافق سعيد أبو الدهب في لحظاته الحرجة.
استلهم المؤلف اسم الفيلم من المثل الشعبي: «أجرى يا بن آدم جري الوحوش»، ليعكس صراع الإنسان مع الحياة والرزق، وكيف أن الغنى أو الفقر لا يرتبط بالجهد أو العبادة دائمًا. يوضح أبو زيد في حواره: «لو كان الثراء بقدر العمل، لنام الحمار على سرير من ذهب. ولو بكثرة العبادة، لوجدنا عُبّاد وزهّاد لا يجدون لقمة العيش».
ويظهر في الفيلم الاهتمام العميق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية حول الرزق، إذ يقرؤها عبد الحكيم للشخصيات، منها قوله تعالى: «والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فُضّلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء»، وكذلك الحديث القدسي: «ومنكم لو أغنيته لفسد حاله ومنكم من أفقرته انصلح حاله والله يعلم وأنتم لا تعلمون».
في البداية، كان من المقرر أن يقوم عزت العلايلي بدور عبد الحكيم، لكن اختلف مع المنتج فحل محله حسين الشربيني، لتثبت التجربة أن الاختيار كان موفقًا، فالشربيني أضفى مصداقية وجدّية على الشخصية، وعكست المشاهد فلسفة أبو زيد في الجمع بين التوجيه الديني العميق والحكاية الإنسانية الملموسة.
يُعد فيلم «جرى الوحوش» رحلة سينمائية فريدة، تجمع بين الأسئلة الروحية والفلسفية، وبين صراع الشخصيات مع المال، القوة، والخيانة، في عالم يُظهر كيف يسعى البشر للرزق والنجاة وسط وحوش الحياة المتربصة بهم، كل ذلك بأسلوب محمود أبو زيد الرمزي والغني بالمعاني.




