د. وليد مرعي يكتب: حب الوطن في ضوء ما يستفاد من هجرة النبي

حب الوطن شيء غريزي في الإنسان ليس مدعاة لامتداحه به؛ لأنه بكل بساطة لازم من لوازم إيمانه، يؤكده: أن الكل فيه سواء، لا فرق بين مؤمن وغيره، مطيع وعاص، الكل فيه سواء، حتى الحيوان؛ وفي هذا يقول الْأَصْمَعِيُّ: “الْحِنَّةُ فِي ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنَ الْحَيَوَانِ: فِي الْإِبِلِ تَحِنُّ إِلَى أَعْطَانِهَا وَلَوْ كَانَ عَهْدُهَا بِهَا بَعِيدًا، وَالطَّيْرِ إِلَى وَكْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُهُ مُجْدِباً، وَالْإِنْسَانِ إِلَى وَطَنِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ لَهُ نَفْعًا”. [المجالسة وجواهر العلم: الدينوري المالكي 2/ 209].
يؤكد هذا المعنى الإمام أبو حامد الغزالي بقوله: “والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص”.
وقد ربط الحق –سبحانه وتعالى- حبّ الأوطان بحبّ النفس في كتابه العزيز، حيث قال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66].
وعند تهيؤ الحبيب المصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للهجرة من موطنه الذي نشأ فيه يقف في لحظة فراق أليمة بنظرة أخيرة يودع بها هذا الموطن الذي حمل له في قلبه أسمى معاني العشق المكاني، ولم يستطع وقتها أن يمر هذا الأمر الشديد دون أن ينفس عما اختلج في صدره تجاهه بتلك الكلمات التي تنوء بحملها الصدور: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» [سنن الترمذي، حديث رقم/ 3926].
بهذه الكلمات الرقراقة التي تلخص حال من أثّر فيه موطنه فأصبح جزءًا لا يتجزأ منه ودّع المصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة، وهنا يطيِّب الله –سبحانه وتعالى- قلب نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويبشره بردِّه إلى مكة موطنه ومحل مولده ومنشئه فيقول مخاطبًا إياه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] .
يقول مقاتل: ” خَرَجَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْغَارِ لَيْلًا، ثُمَّ هَاجَرَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَسَارَ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ مَخَافَةَ الطَّلَبِ فَلَمَّا أَمِنَ رَجَعَ إِلَى الطَّرِيقِ فَنَزَلَ بِالْجُحْفَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَعَرَفَ الطَّرِيقَ إِلَى مَكَّةَ فَاشْتَاقَ إِلَيْهَا، وَذَكَرَ مَوْلِدَهُ ومولد أبيه فأتاه جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلامُ- فَقَالَ: أَتَشْتَاقُ إِلَى بَلَدِكَ وَمَوْلِدِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نَعَمْ. فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- يقول-: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، يَعْنِي: إِلَى مَكَّةَ ظَاهِرًا عَلَيْهِمْ”. [تفسير مقاتل بن سليمان 3/ 359].
وها هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد هجرته من مكة واستقراره بالمدينة المنورة يتابع أخبار موطنه الذي له في قلبه مكانة، فيستخبر كل من أتى من مكة عنها؛ فعندما قدِم أصيل الغفاري على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة يبادره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسؤاله: «يَا أَصِيلُ، كَيْفَ عَهِدْتَ مَكَّةَ؟»، فيعدد له أصيل ما ترك مكة عليه؛ فيقول له المصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأسى شديد وشوق جارف، وحنين موجع: «حَسْبُكَ يَا أَصِيلُ لَا تُحْزِنَّا».[أخبار مكة وما جاء فيها من الأثار: الأزرقي 2/ 155].
وفي هذه العبارة: «حَسْبُكَ يَا أَصِيلُ لَا تُحْزِنَّا» دليل على اهتزاز قلب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شوقًا إلى مكة موطنه الذي نشأ فيه وشبّ.
فهذا درس جليل من الدروس المستفادة من هجرة الحبيب المصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يؤكد أهمية حب الأوطان، ووجوب المحافظة عليها أمنيًّا، وثقافيًّا، وفكريًّا؛ بضرورة الإسهام الفاعل والإيجابي في كل ما من شأنه خدمتها ورفعتها، والتصدّي لكل ما يخل بأمنها وسلامتها، والعمل على ذلك بمختلف الوسائل والإمكانات الممكنة والمتاحة.