توب ستوريفن

بهيجة حافظ.. السيمفونية الصامتة التي انتهت مأساتها بين أنياب الجحود

في الرابع من أغسطس عام 1908، وُلدت بهيجة حافظ في قلب الإسكندرية داخل بيت تنساب فيه أنغام الموسيقى كما ينساب الضوء. والدها، إسماعيل حافظ باشا، كان عاشقًا للفن، يعزف ويؤلف ويلحن، ومن بين ألحانه ودفاتر النوتات خرجت ابنته لتصبح أول مخرجة في تاريخ السينما المصرية، وأول امرأة تكتب الموسيقى التصويرية للأفلام، وتؤدي وتنتج وتكتب، فتجمع بين الحس الجمالي والعقل المبدع في زمن لم يكن فيه الطريق مفروشًا بالورود أمام النساء.

 

امرأة سبقت زمنها

 

منذ بداياتها، تمردت بهيجة حافظ على القيود الاجتماعية، لتصنع لنفسها مكانًا في عالم السينما الذي كان حكرًا على الرجال. كانت بطلة ومخرجة ومؤلفة موسيقى أفلام مثل ليلى بنت الصحراء والضحايا وزهرة السوق وزينب، لتصبح أيقونة فنية تجمع بين الرقة والإصرار.

لكن الطموح كان له ثمن. حين قررت إنتاج فيلمها “زهرة السوق” على نفقتها الخاصة، خذلها الجمهور، فخسرت كل ما تملك. غير أنها لم تفقد إيمانها بالفن، ولا رغبتها في العطاء.

 

مكتبة الأحلام التي لم تصل إلى الشعب

 

بعد انكساراتها المادية، ظلت بهيجة تمتلك كنزها الأثمن: مكتبتها الفنية النادرة، التي ضمت آلاف الكتب والأسطوانات والنصوص المسرحية ولوحات أصلية لرسامين عالميين. كانت تعتبرها إرثها الحقيقي، بل رسالتها الأخيرة للشعب المصري.

روى الكاتب الراحل عبدالله أحمد عبدالله (ميكي ماوس) أنه زارها في بيتها المتواضع بعد تحسن أحوالها قليلًا، فقالت له وهي تبتسم بفخر:

 

“أشهدك أنني أعد هذه المكتبة لأهديها إلى الشعب… تعريت من كل شيء، لكنني لم أفرط فيها.”

 

كانت تصنف الكتب بيديها الضعيفتين، وتشتري الصمغ والدبابيس لتضع بطاقات بيضاء بخطها على كل مجلد، وكأنها تحفظ ذاكرتها قطعة قطعة.

 

رحيل في صمت ونهاية موجعة

 

لكن النهاية كانت مأساوية. غابت بهيجة حافظ عن الأنظار يومين، ففاحت من شقتها رائحة غريبة دفعت الجيران لاستدعاء الشرطة. وحين كُسر الباب، كانت المخرجة الرائدة قد فارقت الحياة وحيدة، في صمت يليق بعنوان أحد أفلامها.

لكن ما حدث بعدها كان أكثر وجعًا: قبل وصول الشرطة لتأمين المكان، اقتحم بعض الجيران شقتها ونهبوا مكتبتها النادرة، تلك التي وعدت أن تهديها للشعب المصري. ضاع الإرث، كما ضاع الحلم، ولم يتبقَّ إلا مرارة السؤال: كيف تُترك فنانة بهذا القدر من العظمة لتودع الحياة بلا وداع؟

 

رحلت بهيجة حافظ في 13 ديسمبر 1983، بعد حياة امتزج فيها المجد بالخذلان، والإبداع بالعزلة، لكنها تركت خلفها أثرًا خالدًا في ذاكرة الفن المصري.

لقبها النقاد بـ”السيمفونية الصامتة” — لقب يحمل في طياته مأساة امرأة عزفت ألحانها بصمت، وصنعت مجدها في عالم لا يعرف الرحمة.

 

رحلت بهيجة كما عاشت: بكرامة، ووحدة، وصوت لا يسمعه إلا من يؤمن بأن الفن الحقيقي لا يموت، بل يختبئ في صدى الذكرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى