توب ستوريخدمي

“المجبراتي”.. حكاية مهنة مصرية بين الاندثار والبقاء

رغم ما شهده الطب من تطور هائل وطفرة في وسائل العلاج الحديثة، ما زالت بعض المهن الشعبية القديمة عالقة في ذاكرة المصريين، تمثل رمزًا لتراث طبي شعبي أصيل، من أبرزها مهنة “المجبراتي”، تلك التي كانت يومًا طوق نجاة للمرضى قبل ظهور المستشفيات الحديثة، لكنها اليوم تواجه خطر الاندثار، بينما يظل صداها حاضرًا في القرى والنجوع.

 

مهنة عريقة تتحدى الزمن

 

المجبراتي هو من يقوم بعلاج الكسور وخلع المفاصل وردّ العظام إلى مكانها الصحيح بطرق تقليدية تعتمد على الخبرة اليدوية والملاحظة الدقيقة، مستخدمًا أدوات بسيطة كجذوع النخل والجبس وشرائط القماش.

في الماضي، كان المجبراتي يحتل مكانة اجتماعية مرموقة، إذ كان المقصد الأول لكل من يعاني من كسر أو التواء، فمهارته العملية كانت تُعادل شهادة طبية في أعين الناس، وثقتهم فيه نابعة من تجارب متوارثة ونجاحات ملموسة.

 

بين العلم والفطرة

 

مع مرور الزمن وتقدّم جراحة العظام، تراجعت المهنة، لكن ارتفاع تكاليف العلاج الطبي وغياب الخدمات في القرى جعل بعض الناس يلجأون للمجبراتي حتى اليوم.

يقول أحد أقدم المجبراتية – وقد تجاوز الثمانين من عمره – إنه تعلم المهنة صغيرًا على يد والده، وكان هدفه دائمًا تخفيف ألم الناس لا جمع المال. يتذكر أول أجر تقاضاه في حياته: ثلاثة مليمات فقط، ويؤكد أنه لم يفرّق يومًا بين غني وفقير أو مسلم ومسيحي، فالمريض عنده إنسان قبل أي شيء.

ويضيف بابتسامة هادئة: “أقوم بعمل الجبيرة وتثبيت العظام، لكن هناك حالات أعجز عنها فأرسلها إلى الطبيب المختص، لأن المهنة لا تعني المغامرة بصحة الناس”.

 

صراع الطب الشعبي مع الطب الحديث

 

العلاقة بين المجبراتي والأطباء ظلّت دائمًا بين شد وجذب؛ فبعض الأطباء يرون في المجبراتي خطرًا على صحة المريض لغياب التأهيل العلمي، بينما يعترف آخرون بخبرته العملية وقدرته الفائقة على التعامل مع الإصابات البسيطة.

أما المجبراتي المخضرم فيرى أن ما يملكه هو “نعمة من الله”، وأن سر نجاحه في الإخلاص والدعاء الصادق من الناس، لا في الشهادات.

 

“برسوم”.. أسطورة المجبراتية

 

حين يُذكر تاريخ المهنة، يتصدره اسم برسوم خير الله، الذي عُرف بلقب “مجبراتي جلالة الملك”. وُلد عام 1846، وتوفي عام 1916 بعد مسيرة طويلة من التفاني في علاج الناس.

ورث برسوم المهنة عن والده، ثم أورثها لابنه يوسف أفندي برسوم، وكان له شهرة واسعة في القاهرة، حتى إن جريدة اللطائف أفردت ست صفحات كاملة لنعْيه وسيرته، وذكرت أنه عالج شخصيات بارزة مثل مي زيادة والخديو عباس حلمي والسلطان حسين كامل.

كانت عيادته تقع عند مدخل شارع الفجالة، وتحمل لافتة كتب عليها “مجبراتي جلالة الملك”، واستخدم في عمله أدوات غاية في البساطة، أبرزها عصا صغيرة طولها 20 سنتيمترًا فقط، كانت سرّ مهارته في ردّ العظام وتثبيتها بدقة مذهلة جعلت كبار الأطباء يلقبونه بـ”العبقري”.

 

تراث يحتاج إلى إنقاذ

 

اليوم، باتت مهنة المجبراتي شبه منقرضة، بعدما أزاحها التقدم العلمي إلى الهامش، غير أن وجودها يظل شاهدًا على عبقرية الإنسان المصري البسيط، الذي مزج بين الفطرة والعلم، وبين الحيلة الشعبية وروح المساعدة.

الحفاظ على هذا الإرث لا يعني التراجع عن التطور، بل توثيق قصص رواد المهنة وتدريب جيل جديد على ممارسات آمنة تحافظ على التراث دون الإضرار بالصحة.

فالمجبراتي لم يكن مجرد معالج، بل كان رمزًا لإنسانية متجذّرة في الريف المصري، تحمل في طياتها حكمة الأجداد وإصرارهم على مواجهة الألم بإبداع ورضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى