
على خلاف ما هو معروف في الوسطين الأدبي والسينمائي، لم يشارك نجيب محفوظ في كتابة أي سيناريو مأخوذ من أعماله الروائية، وظلّ طوال عمره يكتفي بدور الروائي، ويترك مهمة تحويل النص الأدبي إلى الشاشة لصناع السينما. غير أنّ حالة واحدة كسرت هذه القاعدة؛ حين تحمّس المخرج الكبير كمال الشيخ لرواية اللص والكلاب، وقرّر نقلها إلى الشاشة بروحها الصوفية والإنسانية العميقة، فاختار محفوظ أن يشاركه صياغة السيناريو جنباً إلى جنب مع السيناريست صبري عزت.
يحكي بلال فضل في برنامجه “الموهوبون في الأرض” أن كمال الشيخ كان يكتب جزءاً من السيناريو ثم يعرضه على نجيب محفوظ مباشرة، رغبةً منه في ألا يخون روح الرواية، وأن يخرج العمل مكتملاً كما حلم به محفوظ، لا مجرد نقل حرفي من الورق إلى الشاشة. وكان محفوظ يراجع ما كُتب ويقترح تعديلات تمنح الفيلم عمقه الفكري وحسّه الصوفي المتأصل في بنية الرواية وشخصياتها.
ورغم ميلي إلى العزلة وابتعادي غالباً عن الندوات الثقافية، فإنّ ندوة واحدة حضرتها كانت استثناءً محبباً، وهي الخاصة بكتاب الصديق الصحفي محمد شعير “أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرّمة”، الذي جمع فيه تاريخ رواية محفوظ المثيرة للجدل، واستعاد كثيراً من سياقاتها وتحولاتها. وفي تلك الندوة، وقفت إحدى الروائيات لتدّعي أنّ محفوظ كان “جباناً” ويتّبع مبدأ التقية في كتاباته السياسية. والحقيقة أنّ هذا القول يكشف جهلاً مُركَّباً؛ فآفة الثقافة حقاً هي مدّعوها، أما محفوظ فكان أكثر شجاعة مما يتصورون، إذ كتب السياسة بمنطق الفن العميق، لا بمنطق الشعارات المباشرة.
نعود إلى التحفة السينمائية التي صنعها الشيخ. فإلى جانب إخراجه المتقن، استعان بأحد أعظم مؤلفي الموسيقى التصويرية في تاريخ السينما المصرية، أندريا رايدر، وأضاف طبقة صوفية للّحن تناسب عالم “سعيد مهران”، اللص الذي يتغذّى على إرث صوفي تربّى عليه مع والده، أحد مريدي الشيخ علي الجنيدي. ولأن محفوظ يُحمّل أسماء شخصياته دلالات وإسقاطات عميقة، فقد التقط كمال الشيخ هذا الخيط وأعاد صياغته بصرياً.
في أحد أهم كادرات الفيلم، تظهر لوحة معلّقة يتوسّطها قنديل يشبه قناديل مساجد الأولياء، وكأنه قنديل “أم هاشم”. كُتب على اللوحة: “واستبشرت ثم بَاست موضع القدم”، وهو الشطر الثاني من بيت منسوب لأم معبد في وصفها للرسول محمد. وضع الشيخ هذا البيت في الخلفية ليعكس التحوّل الداخلي لسعيد مهران، المتصوّف الذي يحمل قلباً مشتعلاً بالبحث عن الحق، رغم ضياعه في متاهات الخيانة.
ومن عبقرية الشيخ أنه لم يكتف بالنص المكتوب، بل صاغ رموزاً بصرية دقيقة:
نبوية التي تحمل اسماً مشتقاً من “النبوة” جاءت خائنة ساقطة، لتكشف مفارقة بين قداسة الاسم ودناءة الفعل.
عليش سدرة، واسمه مركّب من “عليش” المرتبط بالثعالب وابن آوى، و”سدرة” التي تحيل إلى سدرة المنتهى، ليصبح اسمه رمزاً لخيانة بلغت أقصى درجاتها.
رؤوف علوان، المعلم الذي خان المبادئ وترك تلميذه يواجه مصيره.
وفي مقابلهم تظهر نور، التي يصفها المجتمع بالعاهرة، بينما كانت الوحيدة التي فهمت “سعيد” ووقفت إلى جواره، مطبقة فعلياً ما كُتب على اللوحة: “واستبشرت ثم باست موضع القدم”. كانت نور النور الوحيد في حياة مهران، رغم أن المجتمع يراها مظلمة، ليؤكد الفيلم أن العهر الحقيقي في العقل، لا الجسد.
لقد صنع كمال الشيخ فيلماً يحلّق في عالم نجيب محفوظ الصوفي دون ضجيج، مستخدماً لغة الصورة والرمز، وبقي المشهد الذي يحمل بيت القصيدة شاهداً على فهمه العميق لروح محفوظ، وشاهداً على لقاء المتصوّفين: الروائي والمخرج.




