
حين يتحدث نجوم الزمن الجميل عن بداياتهم الفنية، كثيرًا ما يرددون عبارة واحدة: “كازينو بديعة هو المكان الذي صنعنا.” لم يكن مجرد ملهى ليلي أو مسرحًا للاستعراض، بل كان بحق جامعة فنية تخرّج منها عشرات النجوم الذين صنعوا تاريخ الفن المصري. لكن كيف وُلد هذا الكازينو؟ وما قصة نجاحه الأسطورية؟
تبدأ الحكاية بعد زواج بديعة مصابني من نجيب الريحاني، حيث سافرا مع فرقتهما في جولة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، جمعت بين شهر العسل والعرض الفني. بدت الأمور وردية، وتوقع الجميع أن تكون هذه الزيجة من أنجح العلاقات في الوسط الفني. لكن عند عودتهما إلى مصر بدأت الخلافات تظهر، فشعرت بديعة بأن نجيب انشغل عنها وأهملها، لتتفاقم المشكلات بينهما حتى وقع الانفصال، تاركة له البيت والفرقة.
لم تستسلم بديعة، بل فكّرت كيف تستثمر شهرتها ونجاحها السابق، إلى أن عاد إلى حياتها صديق قديم كان مغرمًا بها قبل زواجها، وأقنعها بأن تنشئ مشروعًا فنيًا خاصًا بها. لم يكتفِ بالكلام، بل قدّم لها دعمًا حقيقيًا، فاشترى مسرحًا كبيرًا في شارع عماد الدين، كان يُعرف آنذاك باسم “مسرح السنديكس”، وقدّمه لها لتبدأ منه مغامرتها الجديدة.
زارت بديعة المسرح وأعجبت بالمكان، فقررت خوض التجربة، وبدأت أولًا بتحديد البرنامج الفني الذي يميزها عن باقي الكازينوهات المنتشرة في المنطقة. كانت تزور تلك الأماكن يوميًا لتتعرف على ما يقدمونه، لتقدّم ما هو مختلف وأكثر إبهارًا.
وفي خطوة جريئة، تعاقدت مع مجموعة من ألمع الأصوات في مصر آنذاك، من بينهم: الشيخ سيد الصفتي، الشيخ إدريس، الشيخ سيد حسنين، فتحية أحمد “مطربة القطرين”، فاطمة سري، سميحة بغدادي، نجاة علي، ومحمد عبد المطلب.
عندما افتُتح المكان لأول مرة تحت الاسم الجديد “كازينو ومسرح بديعة”، اصطف الجمهور في طوابير طويلة أمام الأبواب، وكان الافتتاح حدثًا فنيًا لامعًا تناقلته الصحف. وسرعان ما ذاع صيت الكازينو، ليصبح أشهر مسرح استعراضي في القاهرة.
لم تكتفِ بديعة بما حققته، بل كانت دائمة البحث عن الجديد. فتعاقدت مع محمد عبد الوهاب لإحياء حفلات أسبوعية، بعضها مخصص للسيدات فقط، كما قدمت فريد الأطرش وأسمهان في بداياتهما. ورغم انشغالها بالإدارة، قررت أن تعود إلى الأضواء بنفسها، فقدّمت فقرات منولوج واستعراضات، بينها “استعراض الصاجات” الذي كان جديدًا على الجمهور المصري وقتها.
تحوّل الكازينو سريعًا إلى منارة للفن ومهد للنجوم، وبدأت الصحف تحتفي بـ”بديعة الحديدية” التي خيّبت توقعات كل من قالوا إنها لن تنجح وحدها، وفي مقدمتهم الريحاني نفسه.
ورغم أن أرباحها لم تكن ضخمة لأنها كانت تنفق بسخاء على العروض، فإنها لم تتوقف يومًا عن التجديد. كانت تسافر إلى سوريا ولبنان لتستقدم المواهب الجديدة، مثل ماري جبران وملكة جاجاتي، اللواتي أصبحن فيما بعد نجمات لامعات.
لكن خلف الأضواء، شهد كازينو بديعة أيضًا العديد من الحوادث والدراما الإنسانية؛ قصص حب ومآسٍ، نجاحات وانهيارات، دموع وضحكات. حتى إن مجلة الموعد كتبت يومًا:
“بقدر ما شهد كازينو بديعة من مواهب انطلقت إلى الحياة الفنية، شهد أيضًا دموعًا وأحلامًا محطّمة.. فكل قصة من قصصه كانت تصلح لأن تُروى في كتاب.”
وهكذا تحوّل كازينو بديعة من مشروع وُلد بعد الانفصال إلى صرحٍ فني أسطوري، احتضن البدايات، وصنع مجدًا لا يزال محفورًا في ذاكرة الفن المصري حتى اليوم.




